نبدأ بمنطوق المجزوءة ذاته: الوضع البشري، هذا المفهوم الوجودي بامتياز، هذا المفهوم المركب الذي يدين بحمولته الفلسفية للمفكرين الوجوديين بدءا من القديس أوغسطين وصولا إلى سارتر مرورا بباسكال وكيركجارد،
ضمن هذا التراث، يمكن تحديد الوضع البشري بوصفه مجموعة الحدود القبلية التي ترسم الوضعية الأساسية للانسان
إنها أولا، حدود أو شروط أو وضعيات قبلية، بمعنى أن الإنسان -إذ يُقذف به إلى العالم- يجدها امامه سابقة
عليه، لامفر منها ! وعليه أن يمارس إنسانيته من داخلها، انطلاقا منها أو بالرغم منها وهي ثانيا: حدود أساسية. فما المقصود بذلك؟ هل هناك حدود غير أساسية؟
نعم. لأن الحدود والشروط لا متناهية: فيزيائية، بيولوجية، سياسية، أخلاقية، ذاتية، علائقية، نفسية، وجودية... واللائحة طويلة
لكن يمكننا دائما رد هذه الشروط واختزالها إلى عدد بسيط من الحدود الأساسية
في مقرر الفلسفة للسنة الثانية، ارتأى واضعو البرنامج اختزال هذه الشروط في ثلاث أساسية:
الشرط الذاتي/الذاتية
الشرط العلائقي/الغيرية
الشرط التاريخي/الزمنية Temporalé
بالنسبة للبعد الأول، الذاتي، وهو موضوع درس الشخص فهو يشير إلى الانسان منظورا إليه في إنيته، التي تتركب بداية من جسم وتلك هي الناحية البيولوجية، هو عبارة عن عضوية حية، و بذلك يكون جزء من الطبيعة يخضع لقوانينها، متجسدة في حاجاته وغرائزه المنقولة إليه وراثيا، والتي يعيش تحت ضغطها الدائم. بيد أن هذه الجسمية تعاش من خلال وعي ما، كامل أو جزئي ، حاضر أو غائب ، متقدم أو لاحق... هنا مصدر التوتر: بين الجسمية المادية وبين هذا الوعي الذي يسند كما سنرى هويته ويتذرع به ليطالب لنفسه بقيمة تعلو على قيمة الأجسام/الأشياء، ويحتج به أخيرا ليفك نفسه من أسر الحتمية التي صرنا بفعل العلم نقر بخضوع العالم الفيزيائي لها
لنقل أننا نتناول الوضع البشري في درس الشخص من زاوية الإنية أو الذاتية التي يستشرعها كل فرد على شكل وعي و هوية وقيمة ومسؤولية.
ننتقل الآن إلى البعد العلائقي، وهي موضوع درس الغير، ويستدعي بضعة ملاحظات:
لايتعلق الأمر هنا بدراسة الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا محتاجا إلى غيره لتلبية حاجاته، أو كونه ملزما بالعيش في نظام جماعي منظم اداريا وسياسيا واقتصاديا.. هو ما يسمى المجتمع
لأننا ساعتها سنحول درس الغير إلى درس المجتمع أو الدولة أو درس التبادل ..! والواقع أننا في درس الغير لا في درس المجتمع أو الدولة أو التبادل !!
مالفرق ياترى؟
في درس الغير، نتناول البنية أو النسيج الأساسي (لنتذكر كلمة "الأساسية") لكل هذه المجالات، ألا وهي العلاقة: أنا-أنت أو مانسيمه باختصار الغير
سأشرح: قبل أن يكون الآخر شريكا اجتماعيا او حاكما وا محكوما وا مالكا لسلعة أو خدمة يريد مبادلتها، فإنه أولا آخر، ذات أخرى لكنها ليست ذاتي، يشبهني ولا يشبهني ! إذا كنا في درس الشخص نتناول حد الإنية كأحد شروط الوضع البشري، فإننا في درس الغير نتناول مظهرا آخر من مظاهر الوجود الإنساني وهو الغيرية أو المغايرة أوالاختلاف، وهي لا تقل غموضا وإدهاشا عن الذاتية هذا الغير، كيف يوجد بالنسبة لي؟ كيف أوجد بالنسبة له؟ هل لي أن أعرفه؟ وهل له أن يعرفني أم أنني أظل سجين ذاتيتي!؟
والآن ماذا عن البعد الزمني للوجود الإنساني؟ إن الوجود الإنساني لاتشرطه فقط الذاتية والغيرية بل والزمنية Tomporalité أيضا
الإنسان كائن ذو وعي حاد بالزمن، يعي الزمن لدرجة القلق، لأنه يعلم أن كل دقيقة تمر هي دقيقة تقربه من الموت والعدم !!
ماذا يترتب عن ذلك؟
يترتب عن ذلك أن وجود الانسان وجود ممتد في الزمان، وينطبق ذلك على الفرد والنوع على حد سواء، مادام التاريخ -كما قال باسكال- أشبه برجل يظل هو نفسه ولكنه يتعلم باستمرار! ينتج عن ذلك أن الشخص يعيش تارخين: تاريخه اللفردي الخاص والتاريخ العام، فالانسان يمكن ان يولد حرا او مقيدا، عاملا او فلاحا..، في حقبة ما قبل التاريخ أو ما بعده، في العصر الوسيط أو في خضم الثورة الصناعية أو المعلوماتية.. كلها حقب تاريخية تسم الوجود الإنسان. بعبارة أخرى فالإنسان يعيش دائما ضمن سيرورة تاريخية يرثها ويورّثها لغيره، يفعل فيها وتفعل فيه، وهي ما نسميه التاريخ
وبهذا المعنى، فأنت كائن تاريخي، يعيش الآخرون في ذاكرتك، مثلما ستعيش أنت في ذاكرة الآخرين بعد رحيلك، وكأن لا أحد يفنى فناءا تاما !!
وفي درس التاريخ، نتناول هذا البعد الزمني او التاريخي من أبعاد الوجود الإنساني ومايطرحه من مشكلات مثل: المعرفة، المنطق، والحتمية أو العرضية